فصل: باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الْإِيمَانِ

صباحاً 12 :14
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*39 باب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل من استبرأ لدينه‏)‏ كأنه أراد أن يبين أن الورع من مكملات الإيمان، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان‏.‏

الحديث‏:‏

-52- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ‏.‏

فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ‏.‏

أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ‏.‏

أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا زكرياء‏)‏ هو ابن أبي زائدة، واسم أبي زائدة خالد بن ميمون الوادعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عامر‏)‏ هو الشعبي الفقيه المشهور‏.‏

ورجال الإسناد كوفيون‏.‏

وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها‏.‏

ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي حريز - وهو بفتح الحاء المهملة وآخره زاي - عن الشعبي أن النعمان بن بشير خطب به بالكوفة‏.‏

وفي رواية لمسلم أنه خطب به بحمص‏.‏

ويجمع بينهما بأنه سمع منه مرتين، فإنه ولي إمرة البلدين واحدة بعد أخرى، وزاد مسلم والإسماعيلي من طريق زكرياء فيه‏:‏ ‏"‏ وأهوى النعمان بإصبعه إلى أذنيه يقول‏:‏ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ‏"‏ وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه إن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- مات وللنعمان ثمان سنين، وزكرياء موصوف بالتدليس، ولم أره في الصحيحين وغيرهما من روايته عن الشعبي إلا معنعنا ثم وجدته في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكرياء حدثنا الشعبي، فحصل الأمن من تدليسه‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمسلم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر وعمار في الأوسط للطبراني، ومن حديث ابن عباس في الكبير له، ومن حديث واثلة في الترغيب للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال‏.‏

وادعى أيضا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضا خيثمة بن عبد الرحمن عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطبراني، لكنه مشهور عن الشعبي رواه عنه جمع جم من الكوفيين، ‏(‏1/ 127‏)‏ ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عون، وقد ساق البخاري إسناده في البيوع ولم يسق لفظه، وساقه أبو داود، وسنشير إلى ما فيه من فائدة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحلال بين والحرام بين‏)‏ أي‏:‏ في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبينهما مشبهات‏)‏ بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة وهي رواية مسلم، أي‏:‏ شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين‏.‏

وفي رواية الأصيلي‏:‏ ‏"‏ مشتبهات ‏"‏ بوزن مفتعلات بتاء مفتوحة وعين خفيفة مكسورة وهي رواية ابن ماجه، وهو لفظ ابن عون، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين، ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ‏:‏ ‏"‏ وبينهما متشابهات‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يعلمها كثير من الناس‏)‏ أي لا يعلم حكمها، وجاء واضحا في رواية الترمذي بلفظ‏:‏ ‏"‏ لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام ‏"‏ ومفهوم قوله‏:‏ ‏"‏ كثير ‏"‏ أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن اتقى المشبهات‏)‏ أي‏:‏ حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها لكن عند مسلم والإسماعيلي ‏"‏ الشبهات ‏"‏ بالضم جمع شبهة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استبرأ‏)‏ بالهمز بوزن استفعل من البراءة، أي‏:‏ برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة‏.‏

قوله ‏(‏ومن وقع في الشبهات‏)‏ فيها أيضا ما تقدم من اختلاف الرواة‏.‏

واختلف في حكم الشبهات فقيل‏:‏ التحريم، وهو مردود‏.‏

وقيل‏:‏ الكراهة، وقيل‏:‏ الوقف‏.‏

وهو كالخلاف فيما قبل الشرع‏.‏

وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء‏:‏

أحدها‏:‏ تعارض الأدلة كما تقدم‏.‏

ثانيها‏:‏ اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى‏.‏

ثالثها‏:‏ أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك‏.‏

رابعها‏:‏ أن المراد بها المباح‏.‏

ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج‏.‏

ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول‏:‏ المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه‏.‏

وهو منزع حسن‏.‏

ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة‏:‏ ‏"‏ اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه ‏"‏ والمعنى‏:‏ أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلا من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان‏.‏

والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس‏:‏ فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال‏.‏

ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه‏.‏

أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه‏.‏‏(‏1/ 128‏)‏

ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة عن الشعبي في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏ فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان ‏"‏ وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم-، وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد به أنه مجمل في حق بعض دون بعض، أو أراد الرد على منكري القياس فيحتمل ما قال‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كراع يرعى‏)‏ هكذا في جميع نسخ البخاري محذوف جواب الشرط إن أعربت ‏"‏ من ‏"‏ شرطية وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال‏:‏ ‏"‏ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى ‏"‏ ويمكن إعراب ‏"‏ من ‏"‏ في سياق البخاري موصولة فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير‏:‏ والذي وقع في الشبهات مثل راع يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريا التي أخرجه منها المؤلف، وعلى هذا فقوله‏:‏ ‏"‏ كراع يرعى ‏"‏ جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب‏.‏

والحمى‏:‏ المحمي، أطلق المصدر على اسم المفعول‏.‏

وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له ولو اشتد حذره‏.‏

وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد الفاذة فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع‏:‏ الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه‏.‏

فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا، وحماه محارمه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، حكى ذلك أبو عمرو الداني، ولم أقف على دليله إلا ما وقع عند ابن الجارود والإسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبي، قال ابن عون في آخر الحديث‏:‏ لا أدري المثل من قول النبي - صلى الله عليه وسلم أو من قول الشعبي‏.‏

قلت‏:‏ وتردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجا، لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه‏.‏

وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة - كأبي فروة عن الشعبي - لا يقدح فيمن أثبته، لأنهم حفاظ‏.‏

ولعل هذا هو السر في حذف البخاري قوله‏:‏ ‏"‏ وقع في الحرام ‏"‏ ليصير ما قبل المثل مرتبطا به فيسلم من دعوى الإدراج‏.‏

ومما يقوي عدم الإدراج رواية ابن حبان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعا في رواية ابن عباس وعمار بن ياسر أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا إن حمى الله في أرضه محارمه‏)‏ سقط ‏"‏ في أرضه ‏"‏ من رواية المستملي، وثبتت الواو في قوله‏:‏ ‏"‏ ألا وإن حمى الله ‏"‏ في رواية غير أبي ذر، والمراد بالمحارم فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بالمعاصي بدل المحارم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ ألا ‏"‏ للتنبيه على صحة ما بعدها، وفي إعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مضغة‏)‏ أي‏:‏ قدر ما يمضغ، وعبر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية، وسمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في الجسد مقلوبا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ إذا صلحت ‏"‏ و ‏"‏ إذا فسدت ‏"‏ هو بفتح عينهما وتضم في المضارع، وحكى الفراء الضم في ماضي صلح، وهو يضم وفاقا إذا صار له الصلاح هيئة لازمة لشرف ونحوه، والتعبير بإذا لتحقق الوقوع غالبا، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا‏.‏

وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد‏.‏

وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه‏.‏‏(‏1/ 129‏)‏

والمراد المتعلق به‏:‏ من الفهم الذي ركبه الله فيه‏.‏

ويستدل به على أن العقل في القلب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فتكون لهم قلوب يعقلون بها‏.‏ ‏(‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب‏.‏ ‏(‏

قال المفسرون‏:‏ أي عقل‏.‏

وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ لم تقع هذه الزيادة التي أولها ‏"‏ ألا وإن في الجسد مضغة ‏"‏ إلا في رواية الشعبي، ولا هي في أكثر الروايات عن الشعبي، إنما تفرد بها في الصحيحين زكريا المذكور عنه، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبراني‏.‏

وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم، ومناسبتها لما قبلها بالنظر إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب، لأنه عماد البدن‏.‏

وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبى داود، وفيه البيتان المشهوران وهما‏:‏

عمدة الدين عنـدنا كلمات * مسندات من قول خير البرية اترك المشبهات وازهد ودع ما * ليس يعنيك واعملن بنية والمعروف عن أبي داود عد ‏"‏ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه‏.‏‏.‏ الحديث ‏"‏ بدل ‏"‏ ازهد فيما في أيدي الناس ‏"‏ وجعله بعضهم ثالث ثلاثة حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام، قال القرطبي‏:‏ لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه‏.‏

والله المستعان‏.‏

*3*40 باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الْإِيمَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أداء الخمس من الإيمان‏)‏ هو بضم الخاء المعجمة، وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه‏)‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ إنه روي هنا بفتح الخاء، والمراد قواعد الإسلام الخمس المذكورة في حديث‏:‏ ‏"‏ بني الإسلام على خمس ‏"‏ وفيه بعد، لأن الحج لم يذكر هنا ولأن غيره من القواعد قد تقدم، ولم يرد هنا إلا ذكر خمس الغنيمة فتعين أن يكون المراد إفراده بالذكر‏.‏

وسنذكر وجه كونه من الإيمان قريبا‏.‏

الحديث‏:‏

-53- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ‏:‏ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي‏.‏

فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ‏:‏

مَنْ الْقَوْمُ - أَوْ مَنْ الْوَفْدُ‏؟‏ - قَالُوا‏:‏ رَبِيعَةُ‏.‏

قَالَ‏:‏ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ - أَوْ بِالْوَفْدِ - غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ‏.‏

فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ‏:‏ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ‏:‏ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏؟‏

قَالُوا‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ‏:‏ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ‏.‏

وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ‏:‏ عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ‏:‏ الْمُقَيَّرِ - وَقَالَ‏:‏ احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ‏.‏

الشرح‏:‏ ‏(‏1/ 130‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي جمرة‏)‏ هو بالجيم والراء كما تقدم، واسمه نصر بن عمران بن نوح بن مخلد الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة، من بني ضبيعة، بضم أوله مصغرا، وهم بطن من عبد القيس كما جزم به الرشاطي، وفي بكر بن وائل بطن يقال لهم‏:‏ بنو ضبيعة أيضا، وقد وهم‏.‏

من نسب أبا جمرة إليهم من شراح البخاري، فقد روى الطبراني وابن مندة في ترجمة نوح ابن مخلد جد أبي جمرة أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له‏:‏ ممن أنت‏؟‏ قال‏:‏ من ضبيعة ربيعة‏.‏

فقال‏:‏ خير ربيعة عبد القيس ثم الحي الذين أنت منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنت أقعد مع ابن عباس‏)‏ بين المصنف في العلم من رواية غندر، عن شعبة السبب في إكرام ابن عباس له ولفظه‏:‏ ‏"‏ كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس ‏"‏ قال ابن الصلاح‏:‏ أصل الترجمة التعبير عن لغة بلغة، وهو عندي هنا أعم من ذلك، وأنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه ويبلغه كلامهم، إما لزحام أو لقصور فهم‏.‏

قلت‏:‏ الثاني أظهر، لأنه كان جالسا معه على سريره، فلا فرق في الزحام بينهما إلا أن يحمل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جمرة في طرفه الذي يلي من يترجم عنهم، وقيل‏:‏ إن أبا جمرة كان يعرف الفارسية فكان يترجم لابن عباس بها، قال القرطبي‏:‏ فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد‏.‏

قلت‏:‏ وقد بوب عليه البخاري في أواخر كتاب الأحكام كما سيأتي‏.‏

واستنبط منه ابن التين جواز أخذ الأجرة على التعليم لقوله‏:‏ ‏"‏ حتى أجعل لك سهما من مالي ‏"‏ وفيه نظر، لاحتمال أن يكون إعطاؤه ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها في العمرة قبل الحج كما سيأتي عند المصنف صريحا في الحج‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو أصل في اتخاذ المحدث المستملي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قال‏:‏ إن وفد عبد القيس‏)‏ بين مسلم من طريق غندر عن شعبة السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله ‏"‏ وبين الناس ‏"‏‏:‏ فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت‏:‏ يا ابن عباس إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فأشرب منه فتقرقر بطني، قال‏:‏ لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل‏.‏

وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قرة عن أبي جمرة قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلوا، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال‏:‏ ‏"‏ قدم وفد عبد القيس ‏"‏ فلما كان أبو جمرة من عبد القيس وكان حديثهم يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار ناسب أن يذكره له‏.‏

وفي هذا دليل على أن ابن عباس لم يبلغه نسخ تحريم الانتباذ في الجرار، وهو ثابت من حديث بريدة بن الحصيب عند مسلم وغيره‏.‏

قال القرطبي‏:‏ فيه دليل على أن للمفتي أن يذكر الدليل مستغنيا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ من القوم، أو من الوفد‏)‏ الشك من أحد الرواة، إما أبو جمرة أو من دونه، وأظنه شعبة فإنه في رواية قرة وغيره بغير شك‏.‏

وأغرب الكرماني فقال‏:‏ الشك من ابن عباس‏.‏

قال النووي‏:‏ الوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقي العظماء واحدهم وافد‏.‏

قال‏:‏ ووفد عبد القيس المذكورون كانوا أربعة عشر راكبا كبيرهم الأشج، ذكره صاحب التحرير في شرح مسلم وسمي منهم المنذر بن عائذ وهو الأشج المذكور ومنقذ بن حبان ومزيدة بن مالك وعمرو بن مرحوم والحارث ابن شعيب وعبيدة بن همام والحارث بن جندب وصحار بن العباس وهو بصاد مضمومة وحاء مهملتين، قال‏:‏ ولم نعثر بعد طول التتبع على أسماء الباقين‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكر ابن سعد منهم عقبة بن جروة، وفي سنن أبي داود قيس بن النعمان العبدي وذكره الخطيب أيضا في المبهمات، وفي مسند البزار وتاريخ ابن أبي خيثمة الجهم بن قثم، ووقع ذكره في صحيح مسلم أيضا لكن لم يسمه، ‏(‏1/ 131‏)‏ وفي مسندي أحمد وابن أبي شيبة الرستم العبدي، وفي المعرفة لأبي نعيم جويرية العبدي، وفي الأدب للبخاري الزارع بن عامر العبدي‏.‏

فهؤلاء الستة الباقون من العدد‏.‏

وما ذكر من أن الوفد كانوا أربعة عشر راكبا لم يذكر دليله، وفي المعرفة لابن منده من طريق هود العصري - وهو بعين وصاد مهملتين مفتوحتين - نسبة إلى عصر بطن من عبد القيس عن جده لأمه مزيدة قال‏:‏ بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه إذ قال لهم‏:‏ ‏"‏ سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق ‏"‏ فقام عمر فلقي ثلاثة عشر راكبا فرحب وقرب وقال‏:‏ من القوم‏؟‏

قالوا‏:‏ وفد عبد القيس، فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب أو مرتدفا‏.‏

وأما ما رواه الدولابي وغيره من طريق أبي خيرة - بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتانية وبعد الراء هاء - الصباحي - وهو بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة وبعد الألف حاء مهملة - نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس قال‏:‏ كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وفد عبد القيس وكنا أربعين رجلا فنهانا عن الدباء والنقير‏.‏‏.‏ الحديث، فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى بأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانا، وكان الباقون أتباعا‏.‏

وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة على من سميته هنا، منهم أخو الزارع واسمه مطر وابن أخته ولم يسم وروى ذلك البغوي في معجمه، ومنهم مشمرج السعدي روى حديثه ابن السكن وأنه قدم مع وفد عبد القيس، ومنهم جابر بن الحارث وخزيمة بن عبد بن عمرو وهمام بن ربيعة وجارية - أوله جيم - ابن جابر ذكرهم ابن شاهين في معجمه، ومنهم نوح بن مخلد جد أبي جمرة وكذا أبو خيرة الصباحي كما تقدم‏.‏

وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب التحرير إنه لم يظفر - بعد طول التتبع - إلا بما ذكرهم‏.‏

قال ابن أبي جمرة‏:‏ في قوله‏:‏ ‏"‏ من القوم ‏"‏ دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليعرف فينزل منزلته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا‏:‏ ربيعة‏)‏ فيه التعبير عن البعض بالكل لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فإن عند المصنف في الصلاة من طريق عباد عن أبي جمرة‏:‏ فقالوا إن هذا الحي من ربيعة‏.‏

قال ابن الصلاح‏:‏ الحي منصوب على الاختصاص، والمعنى إنا هذا الحي حي من ربيعة، قال‏:‏ والحي هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به، لأن بعضهم يحيا ببعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مرحبا‏)‏ هو منصوب بفعل مضمر، أي‏:‏ صادفت رحبا - بضم الراء - أي‏:‏ سعة، والرحب - بالفتح - الشيء الواسع، وقد يزيدون معها أهلا، أي‏:‏ وجدت أهلا فاستأنس، وأفاد العسكري أن أول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرر ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم-، ففي حديث أم هانئ‏:‏ ‏"‏ مرحبا بأم هانئ ‏"‏ وفي قصة عكرمة بن أبي جهل‏:‏ ‏"‏ مرحبا بالراكب المهاجر ‏"‏ وفي قصة فاطمة‏:‏ ‏"‏ مرحبا بابنتي ‏"‏ وكلها صحيحة‏.‏

وأخرج النسائي من حديث عاصم بن بشير الحارثي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له لما دخل فسلم عليه‏:‏ ‏"‏ مرحبا وعليك السلام‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غير خزايا‏)‏ بنصب ‏"‏ غير ‏"‏ على الحال، وروي بالكسر على الصفة، والمعروف الأول قاله النووي، ويؤيده رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة‏:‏ ‏"‏ مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى‏"‏

وخزايا جمع خزيان وهو الذي أصابه خزي، والمعنى أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا ندامى‏)‏ قال الخطابي‏:‏ كان أصله نادمين جمع نادم لأن ندامى إنما هو جمع ندمان أي‏:‏ المنادم في اللهو‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

‏"‏ فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني‏"‏، لكنه هنا خرج على الاتباع كما قالوا العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات لكنه أتبع‏.‏ انتهى‏.‏

وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال نادم وندمان في الندامة، بمعنى فعلي هذا، فهو على الأصل ولا إتباع فيه‏.‏‏(‏1/ 132‏)‏

والله أعلم‏.‏

ووقع في رواية النسائي من طريق قرة فقال ‏"‏ مرحبا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين ‏"‏ وهي للطبراني من طريق شعبة أيضا، قال ابن أبي جمرة‏:‏ بشرهم بالخير عاجلا وآجلا، لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها‏.‏

وفيه دليل على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الفتنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏)‏ فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم ‏"‏ كفار مضر ‏"‏ وفي قولهم ‏"‏ الله ورسوله أعلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا في الشهر الحرام‏)‏ ، وللأصيلي وكريمة ‏"‏ إلا في شهر الحرام ‏"‏ وهي رواية مسلم، وهي من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع ونساء المؤمنات‏.‏

والمراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في المغازي بلفظ ‏"‏ إلا في أشهر الحرم ‏"‏ ورواية حماد بن زيد عنده في المناقب بلفظ ‏"‏ إلا في كل شهر حرام ‏"‏ وقيل اللام للعهد والمراد شهر رجب‏.‏

وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال ‏"‏ رجب مضر ‏"‏ كما سيأتي‏.‏

والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسؤوها بخلافه، وفيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا - كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم - وإنا نأتيك من شقة بعيدة‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ الشقة السفر‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هي الغاية التي تقصد‏.‏

ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه المصنف في الجمعة من طريق أبي جمرة أيضا عن ابن عباس قال‏:‏ إن أول جمعة جمعت - بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين، وجواثي بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة، وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بأمر فصل‏)‏ بالتنوين فيهما لا بالإضافة، والأمر، واحد الأوامر، أي مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي أمرهم‏.‏

وفي رواية حماد بن زيد وغيره عند المؤلف قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ آمركم‏"‏، وله عن أبي التياح بصيغة افعلوا‏.‏

و ‏"‏ الفصل ‏"‏ بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل أي المبين المكشوف حكاه الطيبي‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ الفصل البين وقيل المحكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نخبر به‏)‏ بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله وندخل، ويروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر‏.‏

وسقطت الواو من وندخل في بعض الروايات فيرفع نخبر ويجزم ندخل، قال ابن أبي جمرة‏:‏ فيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا، وعلى أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها يقع برحمة الله كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمرهم بأربع‏)‏ أي خصال أو جمل، لقولهم ‏"‏ حدثنا بجمل من الأمر ‏"‏ وهي رواية قرة عند المؤلف في المغازي، قال القرطبي‏:‏ قيل إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى ‏(‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه‏)‏ وإلى هذا نحا الطيبي فقال‏:‏ عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين - لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشـهادة - ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال‏:‏ فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر‏.‏

قيل ولا يرد على هذا الإتيان بحرف العطف فيحتاج إلى تقدير‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ لولا وجود حرف العطف لقلنا إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصدير، لكن يمكن أن يقرأ قوله ‏"‏ وإقام الصلاة ‏"‏ بالخفض فيكون عطفا على قوله ‏"‏ أمرهم بالإيمان ‏"‏ والتقدير أمرهم بالإيمان مصدرا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة الخ، قال‏:‏ ويؤيد هذا حذفهما في رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة ولفظه ‏"‏ أربع وأربع، أقيموا الصلاة الخ‏"‏‏.‏

فإن قيل ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان والتقدير المذكور يخالفه، أجاب ابن رشيد بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة وأجيبوا بأشياء منها أداء الخمس، والأعمال التي تدخل الجنة هي أعمال الإيمان فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف قال في رواية حماد بن زيد عن أبي جمرة ‏"‏ آمركم بأربع‏:‏ الإيمان بالله‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وعقد واحدة ‏"‏ كذا للمؤلف في المغازي، وله في فرض الخمس ‏"‏ وعقد بيده ‏"‏ فدل على أن الشهادة إحدى الأربع‏.‏

وأما ما وقع عنده في الزكاة من هذا الوجه من زيادة الواو في قوله ‏"‏ شهادة أن لا إله إلا الله ‏"‏ فهي زيادة شاذة لم يتابع عليها حجاج بن منهال أحد، والمراد بقوله شهادة أن لا إله إلا الله أي وأن محمدا رسول الله كما صرح به في رواية عباد بن عباد في أوائل المواقيت ولفظه ‏"‏ آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع‏:‏ الإيمان بالله ‏"‏ ثم فسرها لهم ‏"‏ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ‏"‏ الحديث‏.‏

والاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله على إرادة الشهادتين معا لكونها صارت علما على ذلك كما تقدم تقريره في باب زيادة الإيمان، وهذا أيضا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع لأنه أعاد الضمير في قوله ثم فسرها مؤنثا فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرا، وعلى هذا فيقال‏:‏ كيف قال أربع والمذكورات خمس‏؟‏ وقد أجاب عنه القاضي عياض - تبعا لابن بطال - بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال‏:‏ كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين‏.‏

قال‏:‏ وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض‏.‏

وقال غيره‏:‏ قوله ‏"‏ وأن تعطوا ‏"‏ معطوف على قوله ‏"‏ بأربع ‏"‏ أي آمركم بأربع وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم، قال ابن التين‏:‏ لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على ذلك لفظ رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة ‏"‏ آمركم بأربع‏:‏ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم‏"‏‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ ويحتمل أن يقال إنه عد الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد أداء الخمس لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال‏.‏

وقال البيضاوي الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخر حذفها الراوي اختصارا أو نسيانا‏.‏

كذا قال، وما ذكر أنه الظاهر لعله يحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع لقوله ‏"‏ وعقد واحدة ‏"‏ وكان القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدا والموعود بذكره أربعا، وقد أجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه - وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار - واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلى التفصيل ثم تسكن إليه وأن يحصل حفظها للسامع فإذا نسى شيئا من تفاصيلها طالب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع‏.‏

وما ذكره القاضي عياض من أن السبب في كونه لم يذكر الحج في الحديث لأنه لم يكن فرض هو المعتمد، وقد قدمنا الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزم القاضي بأن قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكة تبع فيه الواقدي، وليس بجيد، لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح كما سنذكره في موضعه إن شاء الله، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور ا هـ‏.‏

وقد احتج الشافعي لكونه على التراخي بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحج إلا في سنة عشر، وأما قول من قال إنه ترك ذكر الحج لكونه على التراخي فليس بجيد، لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وكذا قول من قال إنما تركه لشهرته عندهم ليس بقوي، لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال‏:‏ إن ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم، لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها‏.‏

لكن يمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا‏.‏

ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها‏.‏

وأما ما وقع في كتاب الصيام من السنن الكبرى للبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي عن أبي زيد الهروي عن قرة في هذا الحديث من زيادة ذكر الحج ولفظه ‏"‏ وتحجوا البيت الحرام ‏"‏ ولم يتعرض لعدد فهي رواية شاذة، وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق قرة لم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قلابة تغير حفظه في آخر أمره فلعل هذا مما حدث به في التغير، وهذا بالنسبة لرواية أبي جمرة‏.‏

وقد ورد ذكر الحج أيضا في مسند الإمام أحمد من رواية أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب - وعن عكرمة - عن ابن عباس في قصة وفد عبد قيس‏.‏

وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظا فيجمع في الجواب عنه بين الجوابين المتقدمين فيقال‏:‏ المراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونهاهم عن أربع‏:‏ عن الحنتم الخ‏)‏ في جواب قوله ‏"‏ وسألوه عن الأشربة ‏"‏ هو من إطلاق المحل وإرادة الحال، أي ما في الحنتم ونحوه، وصرح بالمراد في رواية النسائي من طريق قره فقال ‏"‏ وأنهاكم عن أربع‏:‏ ما ينتبذ في الحنتم ‏"‏ الحديث‏.‏

والحنتم بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق هي الجرة، كذا فسرها ابن عمر في صحيح مسلم، وله عن أبي هريرة‏:‏ الحنتم الجرار الخضر، وروى الحربي في الغريب عن عطاء أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم‏.‏

والدباء بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد هو القرع، قال النووي‏:‏ والمراد اليابس منه‏.‏

وحكى القزاز فيه القصر‏.‏

والنقير بفتح النون وكسر القاف‏:‏ أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء‏.‏

والمزفت بالزاي والفاء ما طلي بالزفت‏.‏

والمقير بالقاف والياء الأخيرة ما طلي بالقار ويقال له القير، وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت، قاله صاحب المحكم‏.‏

وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال‏:‏ أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت‏.‏

وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت‏.‏

وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر‏.‏

وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت‏.‏

انتهى‏.‏

وإسناده حسن‏.‏

وتفسير الصحابي أولى أن يعتمد عليه من غيره لأنه أعلم بالمراد‏.‏

ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأخبروا بهن من وراءكم‏)‏ بفتح من وهي موصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معا حقيقة ومجازا‏.‏

واستنبط منه المصنف الاعتماد على أخبار الآحاد على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى‏.‏